الفصل 5
.
.
.
عندما حذقت عيون هاكان السوداء بها واقترب منها كالوحش المتربص، انكمشت لوسينا على نفسها… هل سيُقَبِلها حقًا؟ سيكون من الجيد إذا تجاوزت هذا الفعل… لكن إرادته كانت حازمة للغاية،كان الأمر كما لو كانوا سيتبادلون عهود زواجهم أمام الجميع في هذا المكان بالذات… ومع ذلك ، كانت المشكلة أن لوسينا كانت خائفة بشدة من هاكان.
الجسم الكبير الذي يحجب اضواء الكنيسة ،والارتفاع الجسماني الذي جعله يبدو مثل الجبل،والوجه الخالي من التعبيرات، كان وجود هاكان بحد ذاته تهديدًا مرعبا لها.
نظر هاكان حوله وتمتم بهدوء.
“لا تفقدي وعيكِ.”
بناءً على تعبير لوسينا، بدت على وشك أن تفقد وعيها عاجلاً أم آجلاً.
“… … ! “
لاحظ من خلال النظر إليها أنها كانت خائفة بشكل رهيب،ومع ذلك ، تحدث بهدوء شديد ، كما لو أنها ليست مشكلة كبيرة،لأن معظم الناس عادةً يتفاعلون مثل لوسينا عندما يرونه،ولم يكن الأمر مفاجئًا له حتى.. لكنه اهتم بألا يلاحظ رجاله ذلك .
كانت لوسينا متوترة وابتلعت لعابًا جافًا. مهما حاولت التظاهر بالهدوء، لم تستطع التحكم في جسدها المرتجف مثل شجرة الحور الرجراج…
بعد فترة وجيزة، لف يديه الكبيرتان حول خصرها، وشعرت لوسينا بجسدها يطفو في الهواء.
يجب أن تكون عهود الزواج حلوة ومؤثرة ، لكنني أغلقت عيني بإحكام في وجه وحش جائع يقترب مني، ورائحته الرجولية الخانقة على طرف أنفي والشعور الناعم يثقل جسدي.
ارتجفت لوسينا وفقد جسدها قواه،وسرعان ما اتسعت عيناها وتسارع نبضها.. بلغ الخوف ذروته ،وأرخت رأسها،لقد تم قطع التواصل العصبي مع فقرات عنقها التي تثبته…سرعان ما انتشر ضحك الرجال في جميع أنحاء الكنيسة،كان صوت قهقهة،كما لو أن هذا الموقف السخيف كان ممتعًا… تدلى رأس لوسينا مثل برعم ذابل،ولم يكن هاكان يعرف ماذا يفعل،لذلك نظر حوله.
لقد اردت تقبيلك !لكن الإغماء قليلاً! هذا … …حقاً لم أقصد قتلك.
” جلالة الملك ، عليك أن تعطي العروس قبلة حب،لكن لماذا أغمي عليها؟ “
صرح توران ساخرا،وهو يبتسم في وجه هاكان.
تصرف هذا الأخير بهدوء قدر الإمكان دون النظر إلى رجاله، ففي عيونهم،رأى انهم لن يتمكنوا من كبح انفسهم عن الضحك ، كما لو أنه يبدو لهم وكأنه وحش يندفع لأكل غزال. وحتى لو لم يكن مضطرًا إلى النظر،سيهز الرجال الشبيهين بالدببة أكتافهم ويضحكون بشدة.
“هل كانت قبلتي قاتلة؟”
تمتم هاكان دون أن يدير رأسه نحو رجالهِ. لقد كان رجلاً محترمًا ، لكن جذور المشكلة تكمن في أنه لم يكن يعرف النساء جيدًا لأنه عاش في ساحة المعركة طوال حياته…كان يجب أن يكون جيدا في التعامل مع النساء مثل ملكٍ عظيم،لكنه الآن فقد ماء وجهه بشكل تام،على أي حال،الأهم انه سلب ابنة البارون بيرج تمامًا من ملك بريون ، لذلك تم تحقيق الهدف….
كما أنه حصد حصاد الزوجة في وقت مبكر بعد مجيئه للقبض على لصوص القبور الذين حفروا ميزولوق أسلافه.
“الملك العظيم ، ستأتي فترة رخاء عظيمة لتيار قريبا،لكن سيكون من الصعب إذا فعلت هذا حتى في ذلك الوقت.”
انتهز توران الفرصة لمضايقة هاكان بعد وقت طويل،على الرغم من أن سيده كان كائنًا مثاليًا ، إلا أنه كان يعاني من نقطة ضعف واحدة فقط،وينطبق الشيء نفسه على جميع ملوك تيار السابقين… لديهم رفيق واحد فقط في حياتهم كلها، وعليهم الامتناع عن التزاوج حتى يقابلوا الزوجة، ومع ذلك ، كان السؤال هو ما إذا كانت رفيقة التنين ستعيش دون أن تموت؟!…كان تـيار مكانًا يصعب على النساء من القبائل الأخرى العيش فيه لأسباب مختلفة من بينها أن الطاقة المنبعثة من الأرض قوية جدًا،إلا أنه كانت هناك حالات كثيرة ماتوا فيها دون أن يتمكنوا من قبول أزواجهن،لذلك، لا يمكن أن تصبح ملكة الملك العظيم إلا من خلال هذا الزواج… وفقط عندما تحتمل فترة الازدهار الكبير في أرض تيار، يمكن الإعتراف بها كرفيقة تنين حقيقية وأماً لشعب تيار…اذاً من السخافة القول أن هناك رفيقةً واحدة فقط.. . فالمغزى الحقيقي هو الصمود حتى النهاية والقدرة على الحمل وإنجاب أحفاد التنين…إذا لم يكن الأمر كذلك ، فيجب على الملك العظيم أن يواصل البحث عن رفيقة أخرى لرؤية نسله… ومع ذلك ، لم يكن من المقبول انجاب أحفاد التنين من نساء اخريات غير الزوجة الملكية،على وجه الدقة ، كان الأمر كله يتمحور حول العثور على زوجة قادرة على حملِ طفله دون أن تموت، وكانت العملية صعبة للغاية.
” ليست ميتة لقد فقدت الوعي للحظة “
قدم هاكان عذرًا بتعبير مضطرب.
إنها مجرد لمسة خفيفة على شفتيها!، لكن لا يمكنني تخيل سبب فقدانها للوعي.
هل كانت خائفة لهذه الدرجة؟ لم تصرخ في وجهي أو تفتح عينيها على مصراعيها، لكن كان من الصعب عليها فعل ذلك.
يجب أن تصمد لوسينا جيدًا في تيار حتى يتجنب البحث عن زوجة اخرى….
لكن لماذا وجه لوسينا وعيونها مألوفة جدا؟ففي اللحظة التي اقتربتُ فيها منها لتقبيلها،شعرت بإحساس غريب بـ deja vu.(سبق رؤيته) فمن قبل التقيت بفتاة ذات عيون فضية متعبة وابتسامة مُحْرَجة،بدت بلا روح.. إذا كان من الممكن أن يتحقق الأمر… فأنا أريد أن أراها مرة أخرى …
لقد كانت تلك الاحاسيس شبيهة بما شعر به حين التقى لوسينا،وهذا الإحساس كان أكثر اثارة للدهشة عندما اغمى عليها بين ذراعيه… وربما بسبب هذه المشاعر الغامضة، قرر أن يقبل بسهولة لوسينا كزوجته. *
حدقت البارونة في البوابات المكسورة بنظرات عيون محطمة… لقد اجتاحت قبيلة الـ تيار قلعة بيرغ بلا رحمة… انهارت الجدران ومات الفرسان وأُحرقتْ أجزاء من القلعة،حتى الآن ،مشهد الفرسان المعلقين على بوابة القلعة مازال عالقا في الذاكرة ويبث الرعب في النفوس… بسبب الظروف السيئة ،لم يعد لديها الطاقة لإعادة بناء المنطقة، لكن المشكلة الأكبر هي أن لوسينا ، التي كان من المقرر تكريسها للملك ، سلبت منها دون حول ولا قوة،عندها ظهرت خدعة في ذهنها.
“لم يفت الأوان بعد.”
في الواقع ، بدلاً من قول خدعة،فهي بالأحرى فكرة شريرة!..عندما توجهت على عجل إلى الطابق السفلي من القلعة، تبعها بيرين…هم بحاجة إلى استعادة لوسينا،عندها فقط يمكنها عقد صفقة مع الملك والانتقام من زوجها ميغيل بيرج،مسحت الدموع المنهمرة على خديها بأكمامها وقد غمرتها الذكريات.. لقد وقعت هي وميغيل في حب بعضهما البعض وتزوجها،لو كان زواجها مرتبًا وبدونك عواطف كان بالإمكان ان تتقبل احضاره لمثل هاذه الطفلة الغير شرعية،لكن خيانة الرجل الذي أحبته بكل جوارحها حولت حياتها إلى جحيم لايطاق.
لقد أخبرت بيرين بأن والده قد مات كما يقول الجميع،لكنها في الحقيقة لم تصدق ذلك بقدر ماصدقت احساسها،لأنها تعرف أكثر من أي شخص آخر أن ميغيل بيرج ليس من السهل أن يموت…لذلك كانت هناك حاجة إلى لوسينا،لتمزيق قلب زوجها الذي سيعود يومًا ما،لذا لابد أن تحرص على أن تكون ابنته تعيسة.
البارونة،التي وصلت إلى نهاية القبو،كانت تتنفس بصعوبة.
نظرة بيرين،التي تَلَتْ وصولهم، كانت ثابتة على باب الطابق السفلي،كانت هذه هي المرة الأولى التي يعلم فيها بوجود مكان كهذا في قبو القلعة…
فتحت البارونة الباب بالمفتاح وضهر أمامهم درج،كان الأمر أشبه بالذهاب إلى الجحيم، دون أن تنطق بكلمة واحدة ، التقطت مصباحًا من الحائط ودخلت، بعد نزول عدة درجات من السلم ، وصلوا إلى قبو فارغ!!لا،هل يجب بالأحرى تسميته كهفاً؟كان هناك العديد من الصناديق الخشبية، فتحت البارونة إحداها.
“يا الهي!”
أصيب بيرين بالرعب من الصندوق الممتلئ.
“أمي، هل هذه سبيكة ذهب؟”
كانت مظلمة وقذرة،ولكن كان من المؤكد أن الشيء الأصفر من الذهب… لماذا عاشو في فقر بينما كانت تكدس سبائك الذهب؟ لو كان يعلم مسبقا لما اضطر لحفر قبر الـ تيار… لكن البارونة نظرت إلى ابنها بتعبير صارم، وقامت بتنظيف سطح سبيكة الذهب بيدها ، لتكشف عن هلال منحوت في النقش الغائر. بغض النظر عن مدى سوء حياة البارونة ، فهي لم ترد استخدام هذا الكنز مطلقا..ومع ذلك ، لا توجد طريقة أخرى أمامها غير هاذه لتعيد لوسينا،سحبت بعض سبائك الذهب وسلمتها إلى بيرين.
”هناك مماليك في ميناء بروج،سيعودون إلى دمشق قريباً، لذا عليك أن تنجز المهمة قبل ذلك الحين “
”هل نحتاج لخدمات المماليك بدل المرتزقة ؟”
“نعم،فالمماليك هم الوحيدون القادرون على التعامل مع التيار”.
بصفتها وحدة المرتزقة النخبة التي حكمت الصحراء، كان استخدامها مكلفًا، لذلك لم يتمكن النبلاء الآخرون من توظيفهم بسهولة. لذا لا أحد سيشك بأن مكانًا فقيرًا مثل بارونية بيرغ ستكون قادرة على استأجار المماليك.
“بيرين، سيستغرق الأمر خمسة أيام على الأقل حتى يصل زعيم الـ تيار إلى أرضه، نحن بحاجة للتخلص منهم قبل ذلك “.
“أنا أعرف.”
“ولا بد أن يبدو الأمر وكأن ملك بريون ، وليس نحن،من وظف المماليك”
لن يشك هاكان في ذلك على أي حال،لأن الجميع يعلم أن بيرين لا يملك القوة لتحريك المماليك لصالحه.
* لم تكن لوسينا لتفكر أنها ستسافر إلى أرض تيار في نفس العربة المعدة لها للذهاب إلى القلعة الملكية…
كم نمت؟ كانت الشمس تغرب عندما فتحت عيني في العربة المتمايلة.
لقد غبت عن الوعي وهذا ساعدني في أن اخد قيلولة طويلة لأنني كنت متعبة وبحاجة للراحة، أعلم جيدًا أن الوضع لم يكن مناسباً، لكن جسدي كان غريبًا… أن تنام بخمول في العربة التي يقودها البرابرة!!…
في الوقت المناسب،توقفت العربة وبعد لحظة ، فُتح الباب.
“سيدة لوسينا،انزلي من فضلك”
‘سيدة لوسينا؟’
لقد كان ذاك توران تابع هاكان،كان موقفه مهذبًا لدرجة أنه جعلني أشعر بعدم الارتياح. نزلت لوسينا من العربة بمساعدته… أصبحت السماء الغربية أكثر قتامة تدريجياً، لذا يبدو أنهم سيخيمون هنا الليلة.
أشعل جنود هاكان النار وأعدوا طعامًا للعشاء،أخذ توران لوسينا حيث كان هاكان ، الذي كان يلاعب النار.
‘آه،هل هذا الرجل هو زوجي؟’
لم أستطع حتى التخيل ، وما زلت لا أصدق ذلك…الرجل الجاثم ملتفاً حول نفسه على الأرض مثل التنين هو زوجي! مع حدوث الكثير من الأشياء في فترة زمنية قصيرة ، كنت في حيرة بشأن ما أقبله أو أرفضه.
أومأ هاكان برأسه نحوي، لقد كانت إشارة منه لأكون بجانبهِ،اقتربت منه على عجل…على عكس الأماكن الأخرى،كانت الأرض التي يجلس عليها مغطاة ببطانية سميكة.
“فالتأكُلي”
سلم هاكان قطعة كبيرة من الخبز لِلوسينا. “انا لستُ جائعـ… . “
لقد رفضت لأنه كان لا يزال هناك الكثير من الأشياء المشبوهة لقبول ما كان يعرضه عليها،ولكن في تلك اللحظة،هدر قصف الرعد في بطنها وقبلت لوسينا الخبز بطاعة وقد تورد وجهها من الخجل.
“… … ! “
على عكس مظهرها الخشن،كانت قطعة الخبز الكبيرة المقطعة إلى نصفين والمتبلة بالملح والفلفل وشرائح السمك المدخن والخضروات المقطعة شهية للغاية،شمت لوسينا رائحتها أولاً…ففي منزل البارون، كان عليها أن تأكل فقط الخبز المتبقي لتسد رمق جُوعِها،وإذا كان هنالك عفن عليه، فسيتم إزالة الجزء المتعفن وسيتم الحكم على درجة الضرر من خلال رائحته…لكن حتى رائحة الخبز التي أعطاها إياها هاكان كانت زكية.
“لم أخلطه بأي سم.”
بدا هاكان غير مرتاح لشم لوسينا للخبز،فبالنسبة له، بدت الفتاة النبيلة متشككةً ومترددة ،نحو اي طعام يقدمه البرابرة، لكن،سرعان ما تلاشت هذه الشكوك.
“سوف آكل جيدًا … . “
ما مدى جوعها لتقضم الخبز بشراهة دون أن تتمكن من إكمال حديثها؟.. فوجئ هاكان بعجلتها في تناول الخبز، لكنها بدت له مضحكةً بشكل غريب..صرخت لوسينا، التي كانت تأكل على عجل،وقد علق الخبز في حلقها.
” اشرب”
سلم هاكان حليب الأغنام الساخن إلى لوسينا في الوقت المناسب،وارتفع البخار من الكأس على هيئة قرن محارة.
حدقت لوسينا في وجهه وقد حشى الخبز خديها،ربما هذا الرجل ليس مجرد شخص مستبد ومخيف…لقد تخيلت عبثًا أنه إذا اخطأت،فسيقذفها بكلمات مسيئة…
سرعان ما تلاشت افكارها،وذلك لأن وجهه أصبح ضبابيًا في عينيها بسبب البخار الأبيض المتصاعد من كأسها الشبيه بقرن ثور،هل يمكن أن يكون هناك أناس طيبون في العالم؟ لا شك أن كون المرء طيبًا له غرض ما.
“لا يوجد سم في حليب الغنم،لذلك لا تقلقِ “. على الرغم من نظرات عيون لوسينا المشكِكَة، لم يهتم هاكان.
لا يوجد شيء مجاني في هذا العالم لقد كان عليها العمل طوال اليوم للحصول على فتات الخبز في القلعة، لكن هاكان يطعمها هكذا فقط!! لم يكتفي بالخبز اللذيذ فقط،بل حتى انه قدم لها حليب الغنم اللذيذ…هي لاتعلم لماذا يربكها هذا.
“شكرًا لك… . “
قَبِلَتْ لوسينا على مضض.
.
.
.
نهاية الفصل الخامس
.
.
.
ترجمة/انفاس الفجر&Nirach

التعليقات